كيرا
مسالم
مُشاركاتڳً :
48
المعرفة :
267
تاريخ الانضمام :
17/01/2015
العمر :
27
الأحد يناير 18, 2015 1:20 am
د. فاطمة الصمادي
تُعَدُّ إيران وباكستان لاعبيْن سياسييْن مهمَّين في آسيا، وللدولتين حدود مشتركة؛ فضلًا عن تأثيرهما وتأثُّرهما الكبيرين بتطوُّرات الساحة الإقليمية والدولية، وتبدو العلاقة بين الدولتين مرتكزة على مصالح كثيرة، ويحاول الطرفان الحفاظ عليها على الرغم من العقبات والمشاكل التي تعترض العلاقة. تتجاوز ماهية العلاقة وجوهرها مقاصد ومنافع كل طرف، وتأتي متأثِّرة بعدد من المسائل والمتغيِّرات الأمنية والحدودية، وهنا تبرز مجموعة من القضايا التي تؤثِّر بصورة أو بأخرى في مسار العلاقة سلبًا وإيجابًا، ولعلَّ أهم هذه القضايا: أفغانستان: الانسحاب الأميركي ومستقبل الصراع، العلاقة مع الهند، العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، العلاقة مع المملكة العربية السعودية، الجماعات السنية والشيعية المتطرفة، الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وما أعقبه من تطوُّرات على صعيد الأمن الاستراتيجي والجيوستراتيجي للمنطقة؛ تمثَّلت فيما سُمِّيَ بـ"الحرب على الإرهاب".
تسعى هذه الورقة(1) إلى بحث العلاقة بين باكستان وإيران؛ وذلك على ضوء المتغيِّرات التي سبقت الإشارة إليها، مع النظر إلى الأهمية الجيوسياسية والجيوستراتيجية لكلا البلدين؛ وذلك مع بحث السيناريوهات الممكنة ومستقبل العلاقة على ضوء التطوُّرات الأخيرة وفي مقدمتها التقارب الإيراني-الأميركي.
تاريخ العلاقة: إشكاليات قائمة:
كانت إيران في مقدمة الدول التي رحَّبت بقيام باكستان، وكانت أول دولة تعترف بها رسميًّا عقب استقلالها عن الهند عام 1947، وبدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1948، وفي عام 1950 كان محمد رضا شاه البهلوي أول رئيس دولة أجنبية يزور باكستان الناشئة؛ حيث وُقِّعَت بعد الزيارة معاهدة للأخوة والصداقة(2)؛ وعمَّق من علاقات البلدين ما كانت تمرُّ به علاقات باكستان مع كلٍّ من الهند وأفغانستان، ونظرت باكستان إلى إيران كأنها وسيط لتعميق علاقتاها مع العالم الإسلامي(3)، وشهدت علاقات البلدين تقدُّمًا كبيرًا لدرجة وصفها بـ"العلاقات المثالية"؛ وذلك في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين (4)، ويعود ذلك إلى التلاقي الكبير في المواقف والسياسات الخارجية لكلا البلدين فيما يتعلَّق بالقضايا الإقليمية والدولية؛ وانخرط كلٌّ من إيران وباكستان في حلف بغداد، الموالي للغرب، الذي سُمِّيَ بحلف (سانتو) بعد خروج العراق منه، وهو الحلف الذي كان يسعى لمواجهة الشيوعية في المنطقة، وتعاظم الدعم الإيراني لباكستان في الحرب بين الهند وباكستان في عام 1965؛ حيث كانت إيران تسمح للطائرات الباكستانية بالهبوط في إيران والتزوُّد بالوقود، وقامت إيران الشاه بدور مهمٍّ في بناء كتلة إسلامية قوية وموالية للغرب تتمثَّل في باكستان وتركيا وإيران. ومَنَحَ كلا البلدين الآخر وضع الدولة الأكثر رعاية للأغراض التچ ٱٱږيَة؛ وقدَّم الشاه النفط والغاز الإيراني إلى باكستان بشروط سخية، وتعاون الجيشان الإيراني والباكستاني لقمع حركة التمرُّد في بلوشستان(5).
مع أوائل السبعينيات ومع انفصال باكستان الشرقية التي حملت اسم بنغلاديش، أصدر الشاه بيانًا أن إيران لن تسكت إزاء استمرار هذه الحالة في باكستان، وهدَّد بأن إيران ستستولي على إقليم بلوشستان إذا استمرَّ الوضع كذلك (6).
وبمجيء ذي الفقار علي بوتو إلى الحكم في باكستان، حدث تحوُّل كبير في السياسة الخارجية الباكستانية؛ حيث بدأت باكستان تتوجَّه نحو العالم، وفي عام 1974 عُقدت القمَّة الإسلامية في لاهور عام 1974؛ حيث غاب الشاه عن اجتماعاتها احتجاجًا على استضافة القذافي (7).
شهد عام 1979 حدثين مهمَّين أثَّرا في مسار العلاقة؛ ففي ذلك العام احتلَّ الاتحاد السوفيتي أفغانستان، وانتصرت الثورة الإسلامية وأسقطت الشاه في إيران. كان يمكن لهذه التطوُّرات أن تُؤَدِّيَ إلى تعميق العلاقات بين البلدين وهو ما لم يحدث؛ وذلك على الرغم من تقارب موقف باكستان وإيران من أفغانستان في البداية. وعلى الرغم من الإعجاب الذي حمله الجنرال محمد ضياء الحق للثورة الإسلامية، حدث التباين في المواقف عندما بدأ التعاون بين باكستان والولايات المتحدة الأميركية ودول عربية لمواجهة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان.
أمَّا على صعيد الداخل الباكستاني؛ فقد كان انتصار ثورة الخميني في إيران سببًا في تسيُّس ومأسسة الشيعة في باكستان (8)، وبرز هذا التأثير عندما فرضت حكومة ضياء الحقِّ تأدية الزكاة على الباكستانيين؛ حيث رفض الشيعة هذا الأمر؛ مما برهن على مدى نفوذ إيران على المواطنين الشيعة في باكستان، ودخلت باكستان في موجة من التشاحن الطائفي؛ حيث شهدت الساحة نشوء جماعات شيعية وسُنِّيَّة متطرِّفة تميل إلى العنف، وبدأ هذا التشاحن يُلقي بظلال سلبية على العلاقات بين البلدين (9).
في الحرب العراقية-الإيرانية حاولت باكستان أن توازن بين علاقاتها الجيدة مع إيران وتحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية، فلم تُدِنْ أو تدعم أيَّ طرف من أطراف النزاع (10)؛ لكن العقوبات التي فرضها الغرب والولايات المتحدة على إيران فضلاً عن تحالف باكستان مع الولايات المتحدة الأميركية لم يبقيا بلا تأثير سلبي على العلاقة؛ التي كانت تُوصف بالمثالية، وبدأت إيران تتهم باكستان بأنها تتحدَّث بلسان أميركي (11).
شهدت العلاقات بين البدين توتُّرًا غير مسبوق مع مجيء طالبان إلى الحكم في أفغانستان في التسعينات من القرن العشرين، وهي الحركة التي أعلنت عداءها للشيعة وإيران، ورأت إيران أنها حكومة معادية، خاصة أنها تدعم تحالف الشمال، وترتبط بعلاقات قوية مع الطاجيك والأوزبك والشيعة من الهزارة، وكما أن العلاقات بين باكستان والولايات المتحدة الأميركية أثَّرت سلبيًّا على العلاقات الباكستانية-الإيرانية، فإن علاقات إيران والهند لم تقف بعيدة عن معوِّقات العلاقة؛ فقد طوَّرت إيران علاقات استراتيجية مع الهند متجاهلة الحساسية الباكستانية، ومتجاوزة العلاقات العميقة بين الهند وإسرائيل. وفضلاً عن العلاقات السياسية قامت الهند بالمشاركة في تحديث ميناء جابهار وبندر عباس، ومدَّت بالتوافق مع إيران طريقًا بريًّا إلى أفغانستان (12).
بعد سقوط طالبان عادت العلاقات لتشهد بعض التحسُّن؛ لكنها لم تصل إلى المستوى المأمول منها إلى اليوم؛ على الرغم من توافر الرغبة في ذلك.
مصالح متشابكة:
تتشابك المصالح السياسية والاقتصادية بين البلدين، بدرجة شجعت البلدين على تجاوز التوتر الحدودي(13) بتوقيع اتفاق في أكتوبر/تشرين الأول 2014، ويرى محللون باكستانيون أن هذا التوتُّر يجب ألا يؤثِّر على العلاقة، ويؤكِّدون أن إمكانيات حلِّه متوفرة، فـ"العلاقات مع إيران إيجابية في الغالب"(14)، وقد أدَّى المحيط الجغرافي والجوار دورًا كبيرًا في نسج علاقات قوية بين البلدين وإيجاد مجموعة من المنافع المشتركة؛ التي تأتي ممتزجة بمشتركات ثقافية يحرص عليها الطرفان(15).
الاقتصاد: الواقع والمتوقع:
وعلى الرغم من الحديث عن العلاقات السياسية الطيبة فإن حجم التبادل التجاري بين إيران وباكستان يقلُّ عن المليار دولار، وتقول بعض الأرقام: إنه يصل إلى 500 مليون دولار فقط، ويميل الميزان التجاري فيه إلى صالح إيران بصورة كبيرة. وتبدو هذه الأرقام مفاجئة؛ خاصة مع وجود الكثير من الاتفاقيات التجارية، وخلال الأشهر الماضية جرى التوقيع على خمس مذكرات تفاهم بين الهيئة الاقتصادية العليا الإيرانية ونظيرتها الباكستانية، وجرى تقديم مقترح لرفع حجم التجارة بين إيران وباكستان بنسبة 20% سنويًّا، ووضع هذا الهدف ضمن الخطة الاستراتيجية الخمسية لتطوير التجارة بين إيران وباكستان، وهناك عدد كبير من اللجان التي تُشرف على العلاقات الاقتصادية والتچ ٱٱږيَة بين البلدين؛ ولكن يُؤخذ عليها أن الكثير منها غير فاعل (16).
خط أنابيب الغاز:
رحَّبت باكستان بمشروع أنبوب الغاز، ووجدت أنه مشروع يخدم حاجتها من الطاقة؛ وقد وضع حجر الأساس لأنبوب نقل الغاز من حقل "بارس" في جنوب غرب إيران إلى منطقة "نواب شاه" بالقرب من كراتشي على الساحل الجنوبي الشرقي لباكستان مارًّا بأراضي ولايتي السند وبلوشستان الباكستانيتين؛ وسُمِّيَ "مشروع السلام"، وذلك بطول يبلغ 2000 كيلو متر، وتقدَّر كلفته الإجمالية بـ7,5 مليارات دولار، وقد تمَّ إنجاز مدِّ الأنبوب في الجانب الإيراني بطول 1220 كيلو مترًا؛ بينما يبلغ طول أنبوب الغاز في الأراضي الباكستانية 780 كيلو مترًا (17).
وكان من المقرَّر الانتهاء من المشروع -الذي كان يُخطَّط له الوصول إلى الهند- خلال عامين، وبموجب الاتفاق -الذي تمَّ توقيعه بين البلدين في يونيو/حزيران 2010- توفِّر إيران نحو 21,5 مليون متر مكعب من الغاز يوميًّا لباكستان لمدَّة 25 عامًا بداية من ديسمبر/كانون الأول 2014، التي ستُمَكِّن باكستان من توليد نحو 3000-4000 ميجاوات من الكهرباء؛ لكن هذا المشروع يُواجه عقبات كبيرة، لعلَّ في مقدمتها المعارضة الأميركية، فضلاً عن حساسية الحالة الأمنية في إقليم بلوشستان، وتراجع الهند عن المشاركة فيه.
عادت طهران تلحُّ على إسلام آباد لاتخاذ خطوات فاعلة لتنفيذ المشروع (18)، وتلتقي المواقف الباكستانية مع الرأي الإيراني في أهمية المشروع وضرورة تنفيذه؛ ولكن تنفيذه يبدو بحاجة إلى قرار سياسي من صانع القرار الباكستاني؛ خاصة أن الولايات المتحدة الأميركية لم تُقَدِّم ما تحدَّثت عنه من حوافز لتشجيع باكستان على التخلِّي عن هذا المشروع (19). ويرى محللون أن هذه العقدة ستُحَلُّ إذا ما تحسَّنت العلاقات الإيرانية-الأميركية، وإذا ما تمَّ التوصُّل إلى اتفاق بشأن ملف إيران النووي يضمن خلخلة العقوبات المفروضة على إيران؛ التي شكَّلت على مدى العقود الماضية عقبة كبيرة أمام العلاقات الاقتصادية بين البلدين (20).
ويبدو هذا القرار ضروريًّا لتتخلَّى طهران عن تغريم باكستان مبلغًا يصل إلى 200 مليون دولار شهريًّا بسبب التأخير في إنجاز المشروع خلال المهلة القانونية؛ التي تنتهي في 31 ديسمبر/كانون الأول 2014، واتفق الطرفان الإيراني والباكستاني على تغيير مهلة إكمال المشروع لغاية يناير/كانون الثاني عام 2015، وضمنت إيران منح حصتها الاستثمارية لإكمال المشروع، وأكملت مدَّ معظم أنبوب الغاز بطول 900 كيلو متر إلى الحدود مع باكستان؛ إلا أن إسلام آباد لم تنجز المطلوب لإكمال المشروع (21).
يُجمع المحللون والمختصون بالعلاقة بين باكستان وإيران (22) على وجود مزايا عديدة تصبُّ في صالح تعزيز العلاقة؛ وأهمها:
لا توجد مشكلة حدودية بين البلدين، وعلى الرغم من التوتُّر الذي حدث على الحدود مؤخَّرًا فإن الطرفين يُبديان حرصًا عاليًا على تجنُّب أيِّ تصعيد حدودي، وإن كان هذا الحرص يصطدم من فترة لأخرى بالوضع الأمني المتردِّي على الحدود الباكستانية-الإيرانية، وما يرافق ذلك من تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية.
وتُبدي باكستان استعدادًا لتبادل المعلومات مع إيران، وعقد اجتماعات منظمة لإقرار الأمن على الحدود؛ وتُجري اتصالات مع المنظمات الدولية لحلِّ مشكلة مدِّ أنبوب الغاز، وضرورة التعاون لإزالة العراقيل في ضوء المشتركات بين إيران وباكستان (23).
تمتلك العلاقات التچ ٱٱږيَة والاقتصادية أرضية مهمَّة للازدهار والنجاح، وفي مقدمة ذلك ربط البلدين بسكة حديد، وحالت طبيعة الاقتصاد الإيراني وتدهوره بفعل العقوبات الدولية دون إقامة علاقات اقتصادية قوية.
تُعَدُّ باكستان سوقًا مهمَّة لاستهلاك غاز إيران؛ التي تمتلك ثاني أكبر مخزون من الغاز في العالم، وبالنسبة إلى المشاريع الإيرانية فإن باكستان هي الممر البري الوحيد لتصدير الغاز الإيراني إلى الهند (24).
عقبات في وجه العلاقة:
لا يمكن التقليل من قوة العقبات التي تُواجه العلاقة بين البلدين، وتتعلَّق هذه العقبات في معظمها بالعلاقات الدولية وتحالفات كلِّ طرف؛ ويمكن إجمال هذه العقبات بالتالي:
العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية: على مدى العقود الثلاثة الماضية كانت العلاقة مع واشنطن نقطة خلاف بين الجانبين، وصبغ سياسة كل طرف مواقف متباينة تجاه الولايات المتحدة، وبينما سعت إسلام آباد إلى خلق حالة من التوازن في علاقتها مع الحليف الأميركي والجار الإيراني؛ رأت طهران في التحالف ما يعوق تطوير العلاقة، وتمثَّل هذا بصورة كبيرة في معارضة واشنطن لعدد من المشاريع الاقتصادية بين إيران وباكستان، وفي إحكام حلقة العقوبات على إيران، وتتصاعد في باكستان اليوم رغبة كبيرة في إعادة تعريف العلاقة مع واشنطن، خاصة مع تشكُّل قناعة في الأوساط العسكرية والسياسية الباكستانية عبَّر عنها وزير الدفاع الباكستاني بقوله: "الولايات المتحدة الأميركية ليست حليفًا يمكن الوثوق به؛ فقد كانت حليفًا نسبيًّا لنا في الستينات والسبعينات، وكانت سياساتها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا كارثية، وما زلنا ندفع ثمنها" (25). ومع ذلك تُرَحِّب باكستان بالتقارب الإيراني-الأميركي، وترى فيه منفعة كبيرة لباكستان؛ فتخفيف العقوبات المفروضة على طهران سيعود بالنفع على مجمل العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وسيُطلق يد باكستان في تنفيذ عدد من المشاريع المشتركة التي تلبي حاجاتها المتزايدة للطاقة.
العلاقة مع الهند: كما مثَّلت العلاقة مع واشنطن نقطة حساسة بالنسبة إلى إيران، فإن علاقة إيران مع الهند، وتطوُّر هذه العلاقة في السنوات الأخيرة، يُثير قلقًا باكستانيًّا؛ خاصة أن الهند استثمرت العلاقة مع إيران لتحصيل موطئ قدم في أفغانستان؛ وذلك عبر مشاريع اقتصادية كانت بوابة الدخول إليها إيران، ويُعَزِّز من حالة القلق الباكستاني أن دعواتها الأخيرة للحوار لم تلقَ أذنًا هندية مصغية. وتسعى الهند لعلاقات قوية مع إيران؛ خاصة على الصعيد الاقتصادي؛ لكنها تُحجم عن السماح لباكستان أن تكون شريكة في هذا التعاون، وقد بدأت الهند في تسريع وتيرة العمل في ميناء (چاه بهار) تشابهار؛ الذي سيكون مدخلاً لمنطقة آسيا الوسطى وأفغانستان الغنية بالموارد، ويقع الميناء في جنوب شرق إيران، ويمثِّل نقطة حيوية لسعي الهند لتخطِّي باكستان، وفتح منفذ أمام دولة أفغانستان؛ خاصة أن الهند تطور علاقات أمنية ومصالح اقتصادية وثيقة معها؛ ويمثِّل الميناء الذي تشارك الهند في تمويله كذلك بوابة أخرى لإيران نفسها للتجارة مع الهند.
ولن يصبَّ بناء هذا الميناء -الذي تراه الهند ضرورة استراتيجية خاصة أنه مدخلها لآسيا الوسطى وأفغانستان- في مصلحة باكستان؛ حيث لا ترغب في تنامي نفوذ الهند في أفغانستان، ولم تسمح بإرسال بضائع هندية عبر أراضيها لأفغانستان، وبدأت منذ فترة وجيزة فقط في السماح بعبور كمٍّ محدود فقط من الصادرات الأفغانية إلى الهند (26).
قضية أفغانستان: لم يكن لباكستان وإيران وجهات نظر متقاربة بشأن أفغانستان، وجاء هذا التباين بفعل تحالفات كل طرف مع الطرف المخالف في أفغانستان؛ ففي حين دعمت باكستان حركة طالبان، اتجهت إيران إلى معاداة طالبان ودعم تحالف الشمال، وبعد سقوط طالبان بقيت النخبة الحاكمة في كابل توجِّه الاتهامات لباكستان بأنها مسؤولة عن غياب الاستقرار في أفغانستان، وأنها تدعم أطرافًا يسعون لإجهاض العملية السياسية (27). وبعد توقيع الاتفاقية الأمنية بين أفغانستان والولايات المتحدة الأميركية -التي تضمن بقاء قواعد عسكرية أميركية في أفغانستان- تشكَّلت وجهة نظر متقاربة بين طهران وإسلام آباد ترفض هذه القواعد، وترى فيها تهديدًا؛ ومع ذلك فإن أفغانستان بالنسبة إلى الدولتين هي ساحة للنفوذ والتنافس.
الصراع المذهبي: على غرار ما حدث في السودان يوجِّه قطاع عريض من الباكستانيين نقدًا كبيرًا للدور الذي تقوم به المراكز الثقافية الإيرانية في باكستان، ويرون أن هذه المراكز تحوَّلت نشاطاتها بعد الثورة الإسلامية من تعليم اللغة الفارسية إلى نشاطات دينية/طائفية (شيعية)(28)، وتتفاوت الآراء بشأن هذه القضية؛ فهناك فئة ترى أن المشكلة انعكاس لصدام مذهبي إيراني-سعودي، ففي حين تدعم إيران المجموعات الشيعية المتطرِّفة، تُقَدِّم السعودية -أيضًا- الدعم للمجموعات السُّنِّيَّة المتطرِّفة في باكستان، وعلى باكستان أن تسعى لإخراج نفسها من هذه اللعبة الطائفية(29)، بوضع حدٍّ لتدخُّل الجانبين؛ خاصة أن باكستان لديها أكبر تجمُّع للشيعة في العالم بعد إيران، كما أن 80% من سكانها هم من المسلمين السُّنَّة.
ويرى بعض المحللين أن المشكلة لها أسباب كثيرة داخلية وخارجية؛ منها أن القيادة السياسية في إيران أخذت في السنوات الأخيرة بصياغة خطابها وفق الأجندة الشيعية، وليس وفق الأجندة الإسلامية العامة، وهو ما خلق مشكلة (30)، ولا يُرجع محللون آخرون هذا الخطاب إلى السنوات الأخيرة؛ بل يرون أنه جاء مرافقًا للثورة الإسلامية التي أثَّرت في كل المنطقة؛ لكن الكاريزما الإسلامية التي تمتع بها الخميني، والاحترام الذي حظي به في العالم الإسلامي غيَّبا لفترة من الزمن الخطاب المقصور على الأجندة الشيعية (31). وأيًّا تكن الآراء فإنها تُجمع على أنه ليس من مصلحة باكستان الانخراط في اللعبة الطائفية، التي "انخرطت فيها إيران والسعودية" (32). وخلال العقدين الأخيرين شهدت باكستان تصاعدًا في حالات الاختطاف والقتل المنظم لأسباب طائفية، وتغيَّرت خريطة "العنف الطائفي" بين السُّنَّة والشيعة بشكل كبير في باكستان؛ ففي خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كانت المشكلة خطيرة في كراتشي، إلا أن العدوى انتقلت لتشمل أقاليم "السند" و"البنجاب" و"بلوشستان" و"روالبندى"، وأماكن أخرى (33).
مواجهة الحالة الطائفية مشروطة بأن يعرف كل طرف كيف يُلجم "الحمقى الذين يسعِّرون نار الطائفية لدى الطرفين، ومن دون ذلك نكون كمن يصبُّ الزيت على النار"(34).
خلاصة:
إن في باكستان أو إيران مَنْ يُشَكِّك في أهمية العلاقات الباكستانية-الإيرانية، وضرورة تعزيزها؛ ومع ذلك فإن الرغبة الثنائية لم تنجح إلى اليوم في الوصول بالعلاقة إلى المستوى المأمول؛ فالعلاقة بين الدولتين -التي لا يجادل أي محلل في الأهمية الاستراتيجية لكل منهما- ستبقى إلى وقت طويل محكومة بالكثير من العقبات، وتبدو العلاقات الاقتصادية والتچ ٱٱږيَة -التي تتوافر لها بنية تحتية مناسبة- محكومة بتعقيدات الأوضاع السياسية وضحية لها، ولن تتوافر الفرصة لتحقيق الرغبة الباكستانية-الإيرانية على هذا الصعيد دون حلِّ الكثير من الملفات العالقة، وفي مقدمتها المشكلة المتفاقمة في بلوشستان، فضلاً عن وضع حلول للمشكلة الطائفية التي تفاقمت خلال العقد الماضي بصورة مقلقة. وتتشابك هذه العلاقة وتصطدم بعلاقات كلٍّ منهما مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والهند على وجه الخصوص، وإذا ما نجحت جهود التقارب بين واشنطن وطهران؛ فإن ذلك سينعكس إيجابيًّا على العلاقات الباكستانية-الإيرانية، وسيُتيح تنفيذ الكثير من المشاريع الاقتصادية التي أعاقت تنفيذها العقوبات المفروضة على إيران، ويرتبط ذلك -أيضًا- بالعلاقة مع الهند، ومن المؤكد أن باكستان تطالب بنوع من التوازن في التعاون الإيراني-الهندي، ولن يكون من مصلحتها استمرار تنامي العلاقات الاستراتيجية بين الهند وإيران، وفي المقابل فإن إيران لا تنظر بعين الرضا إلى العلاقات القوية بين باكستان والسعودية.
______________________________________________
د. فاطمة الصمادي - باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، متخصصة في الشأن الإيراني.
الهوامش والمصادر:
1- تأتي هذه الورقة فاتحة لعدد من الأوراق البحثية التي أنجزتها الباحثة في زيارة بحثية إلى باكستان في الفترة من 24 من نوفمبر/تشرين الثاني إلى 5 من ديسمبر/كانون الأول 2014.
تُعَدُّ إيران وباكستان لاعبيْن سياسييْن مهمَّين في آسيا، وللدولتين حدود مشتركة؛ فضلًا عن تأثيرهما وتأثُّرهما الكبيرين بتطوُّرات الساحة الإقليمية والدولية، وتبدو العلاقة بين الدولتين مرتكزة على مصالح كثيرة، ويحاول الطرفان الحفاظ عليها على الرغم من العقبات والمشاكل التي تعترض العلاقة. تتجاوز ماهية العلاقة وجوهرها مقاصد ومنافع كل طرف، وتأتي متأثِّرة بعدد من المسائل والمتغيِّرات الأمنية والحدودية، وهنا تبرز مجموعة من القضايا التي تؤثِّر بصورة أو بأخرى في مسار العلاقة سلبًا وإيجابًا، ولعلَّ أهم هذه القضايا: أفغانستان: الانسحاب الأميركي ومستقبل الصراع، العلاقة مع الهند، العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، العلاقة مع المملكة العربية السعودية، الجماعات السنية والشيعية المتطرفة، الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وما أعقبه من تطوُّرات على صعيد الأمن الاستراتيجي والجيوستراتيجي للمنطقة؛ تمثَّلت فيما سُمِّيَ بـ"الحرب على الإرهاب".
تسعى هذه الورقة(1) إلى بحث العلاقة بين باكستان وإيران؛ وذلك على ضوء المتغيِّرات التي سبقت الإشارة إليها، مع النظر إلى الأهمية الجيوسياسية والجيوستراتيجية لكلا البلدين؛ وذلك مع بحث السيناريوهات الممكنة ومستقبل العلاقة على ضوء التطوُّرات الأخيرة وفي مقدمتها التقارب الإيراني-الأميركي.
تاريخ العلاقة: إشكاليات قائمة:
كانت إيران في مقدمة الدول التي رحَّبت بقيام باكستان، وكانت أول دولة تعترف بها رسميًّا عقب استقلالها عن الهند عام 1947، وبدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1948، وفي عام 1950 كان محمد رضا شاه البهلوي أول رئيس دولة أجنبية يزور باكستان الناشئة؛ حيث وُقِّعَت بعد الزيارة معاهدة للأخوة والصداقة(2)؛ وعمَّق من علاقات البلدين ما كانت تمرُّ به علاقات باكستان مع كلٍّ من الهند وأفغانستان، ونظرت باكستان إلى إيران كأنها وسيط لتعميق علاقتاها مع العالم الإسلامي(3)، وشهدت علاقات البلدين تقدُّمًا كبيرًا لدرجة وصفها بـ"العلاقات المثالية"؛ وذلك في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين (4)، ويعود ذلك إلى التلاقي الكبير في المواقف والسياسات الخارجية لكلا البلدين فيما يتعلَّق بالقضايا الإقليمية والدولية؛ وانخرط كلٌّ من إيران وباكستان في حلف بغداد، الموالي للغرب، الذي سُمِّيَ بحلف (سانتو) بعد خروج العراق منه، وهو الحلف الذي كان يسعى لمواجهة الشيوعية في المنطقة، وتعاظم الدعم الإيراني لباكستان في الحرب بين الهند وباكستان في عام 1965؛ حيث كانت إيران تسمح للطائرات الباكستانية بالهبوط في إيران والتزوُّد بالوقود، وقامت إيران الشاه بدور مهمٍّ في بناء كتلة إسلامية قوية وموالية للغرب تتمثَّل في باكستان وتركيا وإيران. ومَنَحَ كلا البلدين الآخر وضع الدولة الأكثر رعاية للأغراض التچ ٱٱږيَة؛ وقدَّم الشاه النفط والغاز الإيراني إلى باكستان بشروط سخية، وتعاون الجيشان الإيراني والباكستاني لقمع حركة التمرُّد في بلوشستان(5).
مع أوائل السبعينيات ومع انفصال باكستان الشرقية التي حملت اسم بنغلاديش، أصدر الشاه بيانًا أن إيران لن تسكت إزاء استمرار هذه الحالة في باكستان، وهدَّد بأن إيران ستستولي على إقليم بلوشستان إذا استمرَّ الوضع كذلك (6).
وبمجيء ذي الفقار علي بوتو إلى الحكم في باكستان، حدث تحوُّل كبير في السياسة الخارجية الباكستانية؛ حيث بدأت باكستان تتوجَّه نحو العالم، وفي عام 1974 عُقدت القمَّة الإسلامية في لاهور عام 1974؛ حيث غاب الشاه عن اجتماعاتها احتجاجًا على استضافة القذافي (7).
شهد عام 1979 حدثين مهمَّين أثَّرا في مسار العلاقة؛ ففي ذلك العام احتلَّ الاتحاد السوفيتي أفغانستان، وانتصرت الثورة الإسلامية وأسقطت الشاه في إيران. كان يمكن لهذه التطوُّرات أن تُؤَدِّيَ إلى تعميق العلاقات بين البلدين وهو ما لم يحدث؛ وذلك على الرغم من تقارب موقف باكستان وإيران من أفغانستان في البداية. وعلى الرغم من الإعجاب الذي حمله الجنرال محمد ضياء الحق للثورة الإسلامية، حدث التباين في المواقف عندما بدأ التعاون بين باكستان والولايات المتحدة الأميركية ودول عربية لمواجهة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان.
أمَّا على صعيد الداخل الباكستاني؛ فقد كان انتصار ثورة الخميني في إيران سببًا في تسيُّس ومأسسة الشيعة في باكستان (8)، وبرز هذا التأثير عندما فرضت حكومة ضياء الحقِّ تأدية الزكاة على الباكستانيين؛ حيث رفض الشيعة هذا الأمر؛ مما برهن على مدى نفوذ إيران على المواطنين الشيعة في باكستان، ودخلت باكستان في موجة من التشاحن الطائفي؛ حيث شهدت الساحة نشوء جماعات شيعية وسُنِّيَّة متطرِّفة تميل إلى العنف، وبدأ هذا التشاحن يُلقي بظلال سلبية على العلاقات بين البلدين (9).
في الحرب العراقية-الإيرانية حاولت باكستان أن توازن بين علاقاتها الجيدة مع إيران وتحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية، فلم تُدِنْ أو تدعم أيَّ طرف من أطراف النزاع (10)؛ لكن العقوبات التي فرضها الغرب والولايات المتحدة على إيران فضلاً عن تحالف باكستان مع الولايات المتحدة الأميركية لم يبقيا بلا تأثير سلبي على العلاقة؛ التي كانت تُوصف بالمثالية، وبدأت إيران تتهم باكستان بأنها تتحدَّث بلسان أميركي (11).
شهدت العلاقات بين البدين توتُّرًا غير مسبوق مع مجيء طالبان إلى الحكم في أفغانستان في التسعينات من القرن العشرين، وهي الحركة التي أعلنت عداءها للشيعة وإيران، ورأت إيران أنها حكومة معادية، خاصة أنها تدعم تحالف الشمال، وترتبط بعلاقات قوية مع الطاجيك والأوزبك والشيعة من الهزارة، وكما أن العلاقات بين باكستان والولايات المتحدة الأميركية أثَّرت سلبيًّا على العلاقات الباكستانية-الإيرانية، فإن علاقات إيران والهند لم تقف بعيدة عن معوِّقات العلاقة؛ فقد طوَّرت إيران علاقات استراتيجية مع الهند متجاهلة الحساسية الباكستانية، ومتجاوزة العلاقات العميقة بين الهند وإسرائيل. وفضلاً عن العلاقات السياسية قامت الهند بالمشاركة في تحديث ميناء جابهار وبندر عباس، ومدَّت بالتوافق مع إيران طريقًا بريًّا إلى أفغانستان (12).
بعد سقوط طالبان عادت العلاقات لتشهد بعض التحسُّن؛ لكنها لم تصل إلى المستوى المأمول منها إلى اليوم؛ على الرغم من توافر الرغبة في ذلك.
مصالح متشابكة:
تتشابك المصالح السياسية والاقتصادية بين البلدين، بدرجة شجعت البلدين على تجاوز التوتر الحدودي(13) بتوقيع اتفاق في أكتوبر/تشرين الأول 2014، ويرى محللون باكستانيون أن هذا التوتُّر يجب ألا يؤثِّر على العلاقة، ويؤكِّدون أن إمكانيات حلِّه متوفرة، فـ"العلاقات مع إيران إيجابية في الغالب"(14)، وقد أدَّى المحيط الجغرافي والجوار دورًا كبيرًا في نسج علاقات قوية بين البلدين وإيجاد مجموعة من المنافع المشتركة؛ التي تأتي ممتزجة بمشتركات ثقافية يحرص عليها الطرفان(15).
الاقتصاد: الواقع والمتوقع:
وعلى الرغم من الحديث عن العلاقات السياسية الطيبة فإن حجم التبادل التجاري بين إيران وباكستان يقلُّ عن المليار دولار، وتقول بعض الأرقام: إنه يصل إلى 500 مليون دولار فقط، ويميل الميزان التجاري فيه إلى صالح إيران بصورة كبيرة. وتبدو هذه الأرقام مفاجئة؛ خاصة مع وجود الكثير من الاتفاقيات التجارية، وخلال الأشهر الماضية جرى التوقيع على خمس مذكرات تفاهم بين الهيئة الاقتصادية العليا الإيرانية ونظيرتها الباكستانية، وجرى تقديم مقترح لرفع حجم التجارة بين إيران وباكستان بنسبة 20% سنويًّا، ووضع هذا الهدف ضمن الخطة الاستراتيجية الخمسية لتطوير التجارة بين إيران وباكستان، وهناك عدد كبير من اللجان التي تُشرف على العلاقات الاقتصادية والتچ ٱٱږيَة بين البلدين؛ ولكن يُؤخذ عليها أن الكثير منها غير فاعل (16).
خط أنابيب الغاز:
رحَّبت باكستان بمشروع أنبوب الغاز، ووجدت أنه مشروع يخدم حاجتها من الطاقة؛ وقد وضع حجر الأساس لأنبوب نقل الغاز من حقل "بارس" في جنوب غرب إيران إلى منطقة "نواب شاه" بالقرب من كراتشي على الساحل الجنوبي الشرقي لباكستان مارًّا بأراضي ولايتي السند وبلوشستان الباكستانيتين؛ وسُمِّيَ "مشروع السلام"، وذلك بطول يبلغ 2000 كيلو متر، وتقدَّر كلفته الإجمالية بـ7,5 مليارات دولار، وقد تمَّ إنجاز مدِّ الأنبوب في الجانب الإيراني بطول 1220 كيلو مترًا؛ بينما يبلغ طول أنبوب الغاز في الأراضي الباكستانية 780 كيلو مترًا (17).
وكان من المقرَّر الانتهاء من المشروع -الذي كان يُخطَّط له الوصول إلى الهند- خلال عامين، وبموجب الاتفاق -الذي تمَّ توقيعه بين البلدين في يونيو/حزيران 2010- توفِّر إيران نحو 21,5 مليون متر مكعب من الغاز يوميًّا لباكستان لمدَّة 25 عامًا بداية من ديسمبر/كانون الأول 2014، التي ستُمَكِّن باكستان من توليد نحو 3000-4000 ميجاوات من الكهرباء؛ لكن هذا المشروع يُواجه عقبات كبيرة، لعلَّ في مقدمتها المعارضة الأميركية، فضلاً عن حساسية الحالة الأمنية في إقليم بلوشستان، وتراجع الهند عن المشاركة فيه.
عادت طهران تلحُّ على إسلام آباد لاتخاذ خطوات فاعلة لتنفيذ المشروع (18)، وتلتقي المواقف الباكستانية مع الرأي الإيراني في أهمية المشروع وضرورة تنفيذه؛ ولكن تنفيذه يبدو بحاجة إلى قرار سياسي من صانع القرار الباكستاني؛ خاصة أن الولايات المتحدة الأميركية لم تُقَدِّم ما تحدَّثت عنه من حوافز لتشجيع باكستان على التخلِّي عن هذا المشروع (19). ويرى محللون أن هذه العقدة ستُحَلُّ إذا ما تحسَّنت العلاقات الإيرانية-الأميركية، وإذا ما تمَّ التوصُّل إلى اتفاق بشأن ملف إيران النووي يضمن خلخلة العقوبات المفروضة على إيران؛ التي شكَّلت على مدى العقود الماضية عقبة كبيرة أمام العلاقات الاقتصادية بين البلدين (20).
ويبدو هذا القرار ضروريًّا لتتخلَّى طهران عن تغريم باكستان مبلغًا يصل إلى 200 مليون دولار شهريًّا بسبب التأخير في إنجاز المشروع خلال المهلة القانونية؛ التي تنتهي في 31 ديسمبر/كانون الأول 2014، واتفق الطرفان الإيراني والباكستاني على تغيير مهلة إكمال المشروع لغاية يناير/كانون الثاني عام 2015، وضمنت إيران منح حصتها الاستثمارية لإكمال المشروع، وأكملت مدَّ معظم أنبوب الغاز بطول 900 كيلو متر إلى الحدود مع باكستان؛ إلا أن إسلام آباد لم تنجز المطلوب لإكمال المشروع (21).
يُجمع المحللون والمختصون بالعلاقة بين باكستان وإيران (22) على وجود مزايا عديدة تصبُّ في صالح تعزيز العلاقة؛ وأهمها:
لا توجد مشكلة حدودية بين البلدين، وعلى الرغم من التوتُّر الذي حدث على الحدود مؤخَّرًا فإن الطرفين يُبديان حرصًا عاليًا على تجنُّب أيِّ تصعيد حدودي، وإن كان هذا الحرص يصطدم من فترة لأخرى بالوضع الأمني المتردِّي على الحدود الباكستانية-الإيرانية، وما يرافق ذلك من تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية.
وتُبدي باكستان استعدادًا لتبادل المعلومات مع إيران، وعقد اجتماعات منظمة لإقرار الأمن على الحدود؛ وتُجري اتصالات مع المنظمات الدولية لحلِّ مشكلة مدِّ أنبوب الغاز، وضرورة التعاون لإزالة العراقيل في ضوء المشتركات بين إيران وباكستان (23).
تمتلك العلاقات التچ ٱٱږيَة والاقتصادية أرضية مهمَّة للازدهار والنجاح، وفي مقدمة ذلك ربط البلدين بسكة حديد، وحالت طبيعة الاقتصاد الإيراني وتدهوره بفعل العقوبات الدولية دون إقامة علاقات اقتصادية قوية.
تُعَدُّ باكستان سوقًا مهمَّة لاستهلاك غاز إيران؛ التي تمتلك ثاني أكبر مخزون من الغاز في العالم، وبالنسبة إلى المشاريع الإيرانية فإن باكستان هي الممر البري الوحيد لتصدير الغاز الإيراني إلى الهند (24).
عقبات في وجه العلاقة:
لا يمكن التقليل من قوة العقبات التي تُواجه العلاقة بين البلدين، وتتعلَّق هذه العقبات في معظمها بالعلاقات الدولية وتحالفات كلِّ طرف؛ ويمكن إجمال هذه العقبات بالتالي:
العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية: على مدى العقود الثلاثة الماضية كانت العلاقة مع واشنطن نقطة خلاف بين الجانبين، وصبغ سياسة كل طرف مواقف متباينة تجاه الولايات المتحدة، وبينما سعت إسلام آباد إلى خلق حالة من التوازن في علاقتها مع الحليف الأميركي والجار الإيراني؛ رأت طهران في التحالف ما يعوق تطوير العلاقة، وتمثَّل هذا بصورة كبيرة في معارضة واشنطن لعدد من المشاريع الاقتصادية بين إيران وباكستان، وفي إحكام حلقة العقوبات على إيران، وتتصاعد في باكستان اليوم رغبة كبيرة في إعادة تعريف العلاقة مع واشنطن، خاصة مع تشكُّل قناعة في الأوساط العسكرية والسياسية الباكستانية عبَّر عنها وزير الدفاع الباكستاني بقوله: "الولايات المتحدة الأميركية ليست حليفًا يمكن الوثوق به؛ فقد كانت حليفًا نسبيًّا لنا في الستينات والسبعينات، وكانت سياساتها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا كارثية، وما زلنا ندفع ثمنها" (25). ومع ذلك تُرَحِّب باكستان بالتقارب الإيراني-الأميركي، وترى فيه منفعة كبيرة لباكستان؛ فتخفيف العقوبات المفروضة على طهران سيعود بالنفع على مجمل العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وسيُطلق يد باكستان في تنفيذ عدد من المشاريع المشتركة التي تلبي حاجاتها المتزايدة للطاقة.
العلاقة مع الهند: كما مثَّلت العلاقة مع واشنطن نقطة حساسة بالنسبة إلى إيران، فإن علاقة إيران مع الهند، وتطوُّر هذه العلاقة في السنوات الأخيرة، يُثير قلقًا باكستانيًّا؛ خاصة أن الهند استثمرت العلاقة مع إيران لتحصيل موطئ قدم في أفغانستان؛ وذلك عبر مشاريع اقتصادية كانت بوابة الدخول إليها إيران، ويُعَزِّز من حالة القلق الباكستاني أن دعواتها الأخيرة للحوار لم تلقَ أذنًا هندية مصغية. وتسعى الهند لعلاقات قوية مع إيران؛ خاصة على الصعيد الاقتصادي؛ لكنها تُحجم عن السماح لباكستان أن تكون شريكة في هذا التعاون، وقد بدأت الهند في تسريع وتيرة العمل في ميناء (چاه بهار) تشابهار؛ الذي سيكون مدخلاً لمنطقة آسيا الوسطى وأفغانستان الغنية بالموارد، ويقع الميناء في جنوب شرق إيران، ويمثِّل نقطة حيوية لسعي الهند لتخطِّي باكستان، وفتح منفذ أمام دولة أفغانستان؛ خاصة أن الهند تطور علاقات أمنية ومصالح اقتصادية وثيقة معها؛ ويمثِّل الميناء الذي تشارك الهند في تمويله كذلك بوابة أخرى لإيران نفسها للتجارة مع الهند.
ولن يصبَّ بناء هذا الميناء -الذي تراه الهند ضرورة استراتيجية خاصة أنه مدخلها لآسيا الوسطى وأفغانستان- في مصلحة باكستان؛ حيث لا ترغب في تنامي نفوذ الهند في أفغانستان، ولم تسمح بإرسال بضائع هندية عبر أراضيها لأفغانستان، وبدأت منذ فترة وجيزة فقط في السماح بعبور كمٍّ محدود فقط من الصادرات الأفغانية إلى الهند (26).
قضية أفغانستان: لم يكن لباكستان وإيران وجهات نظر متقاربة بشأن أفغانستان، وجاء هذا التباين بفعل تحالفات كل طرف مع الطرف المخالف في أفغانستان؛ ففي حين دعمت باكستان حركة طالبان، اتجهت إيران إلى معاداة طالبان ودعم تحالف الشمال، وبعد سقوط طالبان بقيت النخبة الحاكمة في كابل توجِّه الاتهامات لباكستان بأنها مسؤولة عن غياب الاستقرار في أفغانستان، وأنها تدعم أطرافًا يسعون لإجهاض العملية السياسية (27). وبعد توقيع الاتفاقية الأمنية بين أفغانستان والولايات المتحدة الأميركية -التي تضمن بقاء قواعد عسكرية أميركية في أفغانستان- تشكَّلت وجهة نظر متقاربة بين طهران وإسلام آباد ترفض هذه القواعد، وترى فيها تهديدًا؛ ومع ذلك فإن أفغانستان بالنسبة إلى الدولتين هي ساحة للنفوذ والتنافس.
الصراع المذهبي: على غرار ما حدث في السودان يوجِّه قطاع عريض من الباكستانيين نقدًا كبيرًا للدور الذي تقوم به المراكز الثقافية الإيرانية في باكستان، ويرون أن هذه المراكز تحوَّلت نشاطاتها بعد الثورة الإسلامية من تعليم اللغة الفارسية إلى نشاطات دينية/طائفية (شيعية)(28)، وتتفاوت الآراء بشأن هذه القضية؛ فهناك فئة ترى أن المشكلة انعكاس لصدام مذهبي إيراني-سعودي، ففي حين تدعم إيران المجموعات الشيعية المتطرِّفة، تُقَدِّم السعودية -أيضًا- الدعم للمجموعات السُّنِّيَّة المتطرِّفة في باكستان، وعلى باكستان أن تسعى لإخراج نفسها من هذه اللعبة الطائفية(29)، بوضع حدٍّ لتدخُّل الجانبين؛ خاصة أن باكستان لديها أكبر تجمُّع للشيعة في العالم بعد إيران، كما أن 80% من سكانها هم من المسلمين السُّنَّة.
ويرى بعض المحللين أن المشكلة لها أسباب كثيرة داخلية وخارجية؛ منها أن القيادة السياسية في إيران أخذت في السنوات الأخيرة بصياغة خطابها وفق الأجندة الشيعية، وليس وفق الأجندة الإسلامية العامة، وهو ما خلق مشكلة (30)، ولا يُرجع محللون آخرون هذا الخطاب إلى السنوات الأخيرة؛ بل يرون أنه جاء مرافقًا للثورة الإسلامية التي أثَّرت في كل المنطقة؛ لكن الكاريزما الإسلامية التي تمتع بها الخميني، والاحترام الذي حظي به في العالم الإسلامي غيَّبا لفترة من الزمن الخطاب المقصور على الأجندة الشيعية (31). وأيًّا تكن الآراء فإنها تُجمع على أنه ليس من مصلحة باكستان الانخراط في اللعبة الطائفية، التي "انخرطت فيها إيران والسعودية" (32). وخلال العقدين الأخيرين شهدت باكستان تصاعدًا في حالات الاختطاف والقتل المنظم لأسباب طائفية، وتغيَّرت خريطة "العنف الطائفي" بين السُّنَّة والشيعة بشكل كبير في باكستان؛ ففي خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كانت المشكلة خطيرة في كراتشي، إلا أن العدوى انتقلت لتشمل أقاليم "السند" و"البنجاب" و"بلوشستان" و"روالبندى"، وأماكن أخرى (33).
مواجهة الحالة الطائفية مشروطة بأن يعرف كل طرف كيف يُلجم "الحمقى الذين يسعِّرون نار الطائفية لدى الطرفين، ومن دون ذلك نكون كمن يصبُّ الزيت على النار"(34).
خلاصة:
إن في باكستان أو إيران مَنْ يُشَكِّك في أهمية العلاقات الباكستانية-الإيرانية، وضرورة تعزيزها؛ ومع ذلك فإن الرغبة الثنائية لم تنجح إلى اليوم في الوصول بالعلاقة إلى المستوى المأمول؛ فالعلاقة بين الدولتين -التي لا يجادل أي محلل في الأهمية الاستراتيجية لكل منهما- ستبقى إلى وقت طويل محكومة بالكثير من العقبات، وتبدو العلاقات الاقتصادية والتچ ٱٱږيَة -التي تتوافر لها بنية تحتية مناسبة- محكومة بتعقيدات الأوضاع السياسية وضحية لها، ولن تتوافر الفرصة لتحقيق الرغبة الباكستانية-الإيرانية على هذا الصعيد دون حلِّ الكثير من الملفات العالقة، وفي مقدمتها المشكلة المتفاقمة في بلوشستان، فضلاً عن وضع حلول للمشكلة الطائفية التي تفاقمت خلال العقد الماضي بصورة مقلقة. وتتشابك هذه العلاقة وتصطدم بعلاقات كلٍّ منهما مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والهند على وجه الخصوص، وإذا ما نجحت جهود التقارب بين واشنطن وطهران؛ فإن ذلك سينعكس إيجابيًّا على العلاقات الباكستانية-الإيرانية، وسيُتيح تنفيذ الكثير من المشاريع الاقتصادية التي أعاقت تنفيذها العقوبات المفروضة على إيران، ويرتبط ذلك -أيضًا- بالعلاقة مع الهند، ومن المؤكد أن باكستان تطالب بنوع من التوازن في التعاون الإيراني-الهندي، ولن يكون من مصلحتها استمرار تنامي العلاقات الاستراتيجية بين الهند وإيران، وفي المقابل فإن إيران لا تنظر بعين الرضا إلى العلاقات القوية بين باكستان والسعودية.
______________________________________________
د. فاطمة الصمادي - باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، متخصصة في الشأن الإيراني.
الهوامش والمصادر:
1- تأتي هذه الورقة فاتحة لعدد من الأوراق البحثية التي أنجزتها الباحثة في زيارة بحثية إلى باكستان في الفترة من 24 من نوفمبر/تشرين الثاني إلى 5 من ديسمبر/كانون الأول 2014.